أزمة الديون العربية.. لماذا تتراكم ديون بعض الدول رغم تدفق المساعدات والقروض الخارجية؟

كتبت: فاطمة إسماعيل
تُعد أزمة الديون في الدول العربية، ولا سيما في مصر ولبنان والأردن، من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الحرجة التي تستدعي اهتمامًا جادًا من صناع القرار، والمجتمع الدولي، والمنظمات المالية. فعلى الرغم من تلقي هذه الدول مساعدات مالية دولية وإقليمية ضخمة، فإن ديونها الخارجية والداخلية تستمر في التزايد بوتيرة مثيرة للقلق. فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا التراكم المستمر للديون؟ وهل يعود ذلك إلى سوء الإدارة، أم إلى أسباب بنيوية أعمق في اقتصادات هذه الدول؟ في هذا التقرير، نحاول تسليط الضوء على جذور الأزمة، وتحليل وضع كل من مصر ولبنان والأردن، واستعراض أبعاد المساعدات، والبحث في الحلول الممكنة.
أولًا: السياق العام لأزمة الديون في العالم العربي
قبل الغوص في التفاصيل القطرية، لا بد من الإشارة إلى أن معظم الدول العربية، خاصة غير النفطية، تعتمد على قروض خارجية لسد العجز في الموازنات أو تمويل مشاريع البنية التحتية أو حتى لتغطية نفقات تشغيلية. هذه الديون تأتي في ظل ضعف الإنتاجية، وانكماش القطاعات الصناعية والزراعية، والاعتماد المفرط على الاستيراد، إضافة إلى التحديات السياسية التي تزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي.
من أبرز سمات أزمة الديون في العالم العربي:
-
ارتفاع الديون كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
-
تزايد كلفة خدمة الدين، ما يحد من الإنفاق على التعليم والصحة.
-
تباطؤ النمو الاقتصادي، ما يقلل من القدرة على السداد.
-
ضعف الشفافية في إدارة الموارد المالية.
-
اعتماد مفرط على المساعدات الخارجية، دون تحقيق إصلاحات هيكلية حقيقية.
ثانيًا: حالة مصر
1. واقع الدين العام
بلغ الدين الخارجي لمصر نحو 165 مليار دولار بحلول عام 2024، بزيادة ملحوظة مقارنةً بالسنوات السابقة. وترافق ذلك مع تضخم الدين الداخلي الذي يُثقل كاهل الموازنة العامة.
2. الأسباب الرئيسية لتفاقم الدين
-
نمو سكاني متسارع يزيد من الضغط على الموارد والخدمات.
-
سياسات اقتصادية توسعية غير مدروسة تعتمد على الاقتراض لتمويل مشروعات ضخمة.
-
تراجع السياحة والصادرات، وهما من أهم مصادر العملة الأجنبية.
-
انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر نتيجة التقلبات السياسية والبيروقراطية.
3. دور المساعدات الدولية
تلقت مصر مساعدات كبيرة من صندوق النقد الدولي، ودول الخليج، إلا أن هذه المساعدات غالبًا ما تُستخدم لتثبيت سعر الصرف، أو تمويل مشاريع غير منتجة اقتصاديًا، ما يُضعف قدرتها على خلق عوائد تسدد بها القروض.
ثالثًا: حالة لبنان
1. الانهيار المالي الشامل
يمثل لبنان حالة فريدة من نوعها، حيث تراكم الدين العام ليبلغ نحو 170% من الناتج المحلي الإجمالي، في ظل انهيار العملة الوطنية وتفشي الفساد.
2. العوامل المؤدية للأزمة
-
نظام سياسي طائفي غير مستقر يمنع الإصلاح.
-
فساد إداري ومالي عميق الجذور.
-
سياسات نقدية غير مستدامة قامت على تثبيت سعر الصرف من دون دعم حقيقي بالاحتياطات.
-
هروب رؤوس الأموال وانهيار القطاع المصرفي.
3. المساعدات الدولية والمانحين
رغم وعود مؤتمر “سيدر” عام 2018، لم تُفعّل المساعدات الدولية بسبب رفض السلطات اللبنانية تنفيذ إصلاحات مطلوبة. كما أن تدخلات حزب الله وتدخلاته الإقليمية أدت إلى فرض عزلة سياسية ودبلوماسية على لبنان، ما أضعف فرص التمويل.
رابعًا: حالة الأردن
1. دين عام مستقر نسبيًا لكنه مقلق
بلغ الدين العام الأردني حوالي 115% من الناتج المحلي بحلول 2024، معتمدًا بشكل كبير على القروض والمنح الدولية.
2. أسباب تفاقم الدين
-
اعتماد اقتصادي مفرط على المساعدات.
-
ضغط اللاجئين السوريين الذين زادوا العبء على الخدمات والاقتصاد.
-
انكماش القطاعات الإنتاجية.
-
تراجع عائدات السياحة والتحويلات.
3. المساعدات ودورها
يتلقى الأردن مساعدات دورية من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، وصندوق النقد الدولي. غير أن تأثير هذه المساعدات غالبًا ما يُستهلك في دعم العملة وتمويل العجز، دون تمكين اقتصادي حقيقي.
خامسًا: لماذا تفشل المساعدات في وقف تراكم الديون؟
1. غياب الإصلاحات الهيكلية
غالبًا ما ترتبط المساعدات بقروض مشروطة، لكن هذه الشروط لا تُطبّق بفعالية على الأرض، ما يجعلها حلاً مؤقتًا دون تأثير دائم.
2. ضعف الحوكمة والشفافية
الفساد والمحسوبية يمنعان استخدام الموارد بكفاءة، ما يُضعف الثقة الداخلية والخارجية.
3. مشاريع غير منتجة اقتصاديًا
كثير من المساعدات تُستثمر في مشاريع بنية تحتية عملاقة بدون عائد إنتاجي، ما يخلق عبئًا إضافيًا دون دخل.
4. التركيز على الاستقرار السياسي بدل التنمية
في أحيان كثيرة، تُمنح المساعدات لضمان استقرار سياسي وأمني، بغض النظر عن الأداء الاقتصادي.
سادسًا: التحديات المشتركة بين الدول الثلاث
-
الاعتماد المفرط على الاستيراد والديون.
-
تآكل الطبقة المتوسطة، وزيادة نسب الفقر والبطالة.
-
ضعف الثقة بين الدولة والمواطن، وبين الدولة والممولين.
-
عدم وضوح الرؤية الاقتصادية بعيدة المدى.
سابعًا: الحلول المقترحة
1. تعزيز الإنتاج المحلي
التركيز على الزراعة والصناعة والسياحة لخلق عوائد حقيقية ومستدامة.
2. إصلاح النظام الضريبي
وضع نظام ضريبي عادل وفعال يُعزز الإيرادات ويقلل من الاعتماد على القروض.
3. مكافحة الفساد وتحسين الحوكمة
تعزيز استقلالية المؤسسات الرقابية، وضمان الشفافية في صرف القروض والمساعدات.
4. تشجيع الاستثمارات الأجنبية والمحلية
عبر توفير بيئة تشريعية وإدارية مستقرة ومحفزة.
5. تخفيض الإنفاق غير الضروري
وخاصة في القطاع العام والمشاريع ذات العائد المنخفض.
إن أزمة الديون في مصر ولبنان والأردن ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية لسياسات اقتصادية غير مستدامة، وانعدام الرؤية بعيدة المدى، وغياب الشفافية. ورغم المساعدات المالية الكبيرة، إلا أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح يجعل من هذه المساعدات مجرد مُسكنات مؤقتة. الحل يتطلب تحركًا جادًا نحو إصلاحات هيكلية، والاعتماد على الذات، وتحقيق التنمية الشاملة التي تقود إلى الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
- للمزيد : تابع العاصمة والناس، وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك وتويتر .