تقارير

طموح الصين للتحرر من السلاح الأمريكي وتألق صناعة الطيران المدني.. طائرة كوماك C919 نموذجًا

كتبت: فاطمة إسماعيل 

منذ عقود، تسعى الصين إلى التحرر من التبعية للتكنولوجيا والسلاح الغربي، وعلى رأسها الأمريكي. هذا التوجه لم يكن مجرد خيار استراتيجي، بل أصبح ضرورة أمنية واقتصادية في ضوء التوترات الجيوسياسية المتصاعدة. أحد أبرز مجالات هذا الطموح يتمثل في صناعة الطيران المدني، حيث تحاول بكين كسر هيمنة عمالقة الطيران مثل بوينغ الأمريكية وإيرباص الأوروبية، من خلال تطوير طائراتها الخاصة، وفي مقدمتها الطائرة “كوماك C919”.

أولًا: السياق الجيوسياسي لطموح الصين في التحرر من السلاح الأمريكي

1. التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة

على مدار العقدين الماضيين، توترت العلاقات بين واشنطن وبكين بسبب عوامل كثيرة، من بينها النزاعات التجارية، وملف تايوان، والقيود التكنولوجية، وقوانين العقوبات الأمريكية التي طالت شركات صينية كبرى مثل “هواوي” و”ZTE”. في هذا السياق، أدركت الصين أهمية تقليل اعتمادها على السلاح والتقنيات الأمريكية.

2. العقوبات ودورها في تسريع الطموح الصيني

أدت العقوبات الأمريكية إلى حرمان الصين من بعض التكنولوجيا العسكرية والمدنية المتقدمة، مما جعلها تسابق الزمن لتطوير بدائل محلية. وعلى الرغم من أن بكين كانت بالفعل تنتهج استراتيجية “الإحلال المحلي”، فإن هذه الضغوط دفعتها إلى تسريع وتيرة التطوير والابتكار المحلي.

ثانيًا: الاستقلال الدفاعي والتكنولوجي كركيزة للأمن القومي الصيني

1. بناء قاعدة صناعية عسكرية مستقلة

تمكنت الصين من بناء قاعدة تصنيع عسكري محلية تشمل الدبابات، والطائرات المقاتلة، والصواريخ الباليستية، ونظم الدفاع الجوي. المقاتلات الصينية مثل “J-20” أصبحت منافسًا حقيقيًا للطائرات الأمريكية “F-22″ و”F-35”.

2. الصناعة المزدوجة: مدنية وعسكرية

الصين تبنّت سياسة “الاندماج المدني-العسكري”، حيث تُستخدم التكنولوجيا المدنية في تعزيز القدرات العسكرية والعكس. هذا التكامل ساهم في تسريع تطوير الصناعات المتقدمة، بما فيها الطيران المدني.

ثالثًا: تطور صناعة الطائرات المدنية في الصين

1. من التبعية إلى السيادة

حتى وقت قريب، كانت الصين تعتمد كليًا على استيراد الطائرات المدنية من بوينغ وإيرباص. ورغم تزايد الطلب المحلي على السفر الجوي، لم يكن للصين طرازها الخاص القادر على المنافسة في الأسواق. هذه الفجوة أدت إلى انطلاق مشروع كوماك C919.

2. إنشاء شركة كوماك

تأسست شركة “كوماك” (Commercial Aircraft Corporation of China, COMAC) في عام 2008 بدعم حكومي كبير. كان الهدف منها تطوير طائرة ركاب محلية تتنافس مباشرة مع “بوينغ 737″ و”إيرباص A320”.

رابعًا: طائرة كوماك C919 – الحلم الصيني المجنّح

1. نظرة عامة

  • الاسم: كوماك C919

  • السعة: حوالي 158 راكبًا

  • المدى: 4,075 إلى 5,555 كم

  • عدد المحركات: 2 (CFM LEAP-1C، فرنسية-أمريكية الصنع في البداية)

  • أول رحلة تجريبية: 5 مايو 2017

  • دخول الخدمة: 2023، أول رحلة تجارية قامت بها شركة China Eastern Airlines

كوماك C919
 كوماك C919

2. مراحل التطوير

استغرق تطوير الطائرة أكثر من عقد من الزمن، وواجه تحديات تقنية ضخمة، لا سيما في ما يتعلق بالحصول على شهادات السلامة والاعتمادية من الجهات الدولية، وتوفير سلسلة توريد موثوقة.

3. التحديات التكنولوجية

رغم أن الصين طورت الهيكل والتصميم محليًا، فإن العديد من مكونات C919 لا تزال مستوردة، مثل المحركات وأنظمة الطيران. ومع ذلك، تعمل بكين حاليًا على تطوير بدائل محلية لتلك المكونات عبر شركات مثل AVIC وAECC.

خامسًا: الأبعاد الاستراتيجية والاقتصادية لطائرة C919

1. تقليص التبعية للغرب

بمجرد إنتاج كميات كافية من طائرات C919، ستقلل الصين وارداتها من الطائرات الغربية بشكل كبير. وهذا يعد نصرًا اقتصاديًا واستراتيجيًا للصين في ظل الصراعات الجيوسياسية.

2. توطين التكنولوجيا

كل طائرة يتم إنتاجها تعني فرصة إضافية لتوطين التكنولوجيا. فالصين تأمل، خلال السنوات القليلة القادمة، أن تعتمد طائرة C919 بالكامل على المكونات المحلية بما فيها المحرك (CJ-1000AX قيد التطوير).

3. المنافسة في السوق الدولية

في حال تمكنت الصين من ضمان السلامة والكفاءة التشغيلية لطائرة C919، فإنها قد تبدأ بتصديرها لدول غير غربية، خصوصًا في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، ما سيشكل تحديًا جديدًا لبوينغ وإيرباص.

سادسًا: التحديات التي تواجه الطائرة الصينية

1. الشهادات الدولية

الحصول على اعتماد من إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية (FAA) ووكالة سلامة الطيران الأوروبية (EASA) هو شرط أساسي لتصدير الطائرة إلى الأسواق الغربية، وهو أمر لا يزال بعيدًا.

2. منافسة شرسة من بوينغ وإيرباص

بوينغ 737 وإيرباص A320 تتمتعان بسجل تشغيل طويل وثقة شركات الطيران، كما أن لديهما إمكانيات تمويلية ودعم حكومي يجعل المنافسة معها صعبة، خاصة بالنسبة لشركة حديثة مثل كوماك.

3. القيود التقنية

رغم التقدم الكبير، لا تزال الصين بحاجة إلى سنوات لتطوير مكونات معقدة مثل أنظمة التحكم الطيراني المتقدمة والمحركات العالية الكفاءة بشكل محلي كامل.

سابعًا: كوماك C919 رمز للنهضة الصينية

تُعد طائرة C919 أكثر من مجرد مشروع اقتصادي، فهي رمز للنهضة التكنولوجية الصينية، وجزء من الرؤية الكبرى المسماة “صُنع في الصين 2025″، التي تهدف إلى جعل الصين قوة عظمى في الصناعات المتقدمة.

1. تأثيرات محلية

تطوير C919 ساهم في تعزيز عشرات الصناعات المحلية، من المواد المركبة، والإلكترونيات، إلى برمجيات التحكم. كما وفر المشروع عشرات الآلاف من فرص العمل المتخصصة.

2. رسائل للعالم

ترسل الصين عبر C919 رسالة واضحة: بإمكانها تطوير طائرة ركاب حديثة وآمنة، رغم العراقيل السياسية والتقنية. وهو ما يعزز من مكانتها كقوة صناعية عالمية قادمة.

ثامنًا: المستقبل المنتظر لصناعة الطيران الصينية

1. الطرازات المستقبلية

كوماك تعمل حاليًا على تطوير طائرة ARJ21 (إقليمية) وكذلك طائرة بعيدة المدى بالتعاون مع روسيا (CRAIC CR929). هذه المشاريع ستدعم مزيدًا من الاستقلال الصناعي في قطاع الطيران.

2. تسويق عالمي مدروس

الصين تخطط لتقديم حوافز مالية مغرية ودعم حكومي لشراء طائراتها، كما أنها تستهدف أسواقًا لا ترتبط كثيرًا بالغرب لترويج طرازات كوماك.

كوماك C919 ليست مجرد طائرة، بل هي تجسيد لطموح الصين لكسر الاحتكار الغربي في الصناعات العالية التقنية، والتأكيد على قدرتها على التقدم بسرعة في القطاعات الأكثر تعقيدًا. وبينما لا تزال هناك تحديات قائمة، فإن ما تحقق حتى الآن يمهد الطريق نحو صناعة طيران مدني صينية قادرة على التنافس عالميًا خلال العقود القادمة.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى