تقارير

قطع شريان الحياة.. كيف تُحوّل الهند المياه إلى سلاح جيوسياسي ضد باكستان؟

كتبت: فاطمة إسماعيل

في ظل التوتر المتصاعد بين الهند وباكستان بعد التصعيد العسكري الأخير الذي أسفر عن إسقاط عدة طائرات هندية بينها ثلاث مقاتلات رافال، أخذت الأزمة بعدًا أكثر خطورة مع تلويح نيودلهي بورقة قطع المياه عن باكستان. لم يكن ذلك مجرد تهديد إعلامي عابر، بل جاء مرتبطًا بخطاب متصاعد داخل المؤسسات الهندية يدعو لإعادة النظر في “اتفاقية مياه السند” التاريخية.

فالماء، الذي طالما كان رمزًا للنماء والارتباط الطبيعي بين البلدين، يتحوّل الآن إلى أداة ردع، لا تقل فتكًا عن الصواريخ والطائرات. هذا التحول يُعدّ من أخطر مؤشرات انزلاق الصراع بين القوتين النوويتين نحو مواجهات مفتوحة، تشمل جبهات غير تقليدية.

أولًا: السياق السياسي والعسكري للتصعيد

منذ بداية مايو 2025، تصاعدت التوترات بين الهند وباكستان على خلفية هجوم مميت في إقليم كشمير أودى بحياة 26 جنديًا هنديًا. وردّت الهند بعملية جوية أطلقت عليها اسم “سندور”، تضمنت اختراق المجال الجوي الباكستاني، حيث واجهت مقاتلاتها كمينًا محكمًا من دفاعات باكستان الجوية، أسفر عن إسقاط خمس طائرات هندية، بينها ثلاث طائرات رافال الفرنسية الصنع.

لم يكن الرد الباكستاني مجرد استعراض قوة، بل مثّل تحولًا استراتيجيًا في موازين الردع الجوي. وفي أعقاب هذا الإخفاق العسكري، بدأ الحديث داخل الأوساط السياسية والإعلامية في الهند عن اللجوء إلى خيارات غير تقليدية للضغط على باكستان، وكان من أبرزها: ورقة المياه.

ثانيًا: اتفاقية مياه السند – أساس الصراع الصامت

تم التوقيع على اتفاقية مياه نهر السند عام 1960 بين الهند وباكستان، برعاية البنك الدولي. تنص الاتفاقية على تقاسم ستة أنهار رئيسية في حوض السند:

الأنهار الشرقية (رافي، بياس، ساتلج):

تُمنح للهند

الأنهار الغربية (السند، جيلوم، تشيناب):

تُمنح لباكستان، مع السماح للهند باستخدامها بشكل “غير استهلاكي” (توليد الطاقة، الري الخفيف)

ورغم الحروب المتكررة بين البلدين، ظلت الاتفاقية صامدة، وهو ما اعتُبر لسنوات “نموذجًا نادرًا من التعاون المستدام”. لكن الهند بدأت منذ 2016، في أعقاب هجمات كشمير، تتحدث علنًا عن “مراجعة الاتفاقية”.

نهر تشيناب
نهر تشيناب

وفي مايو 2025، وبُعيد الضربة الجوية، أعلن مسؤولون هنود أن بلادهم “تدرس بجدية استخدام حقوقها الكاملة في مياه الأنهار الغربية”، في إشارة واضحة إلى إمكانية خفض تدفق المياه نحو باكستان.

ثالثًا: ما الذي يمكن أن تفعله الهند عمليًا؟

ليست الهند قادرة حاليًا على “قطع المياه” بشكل تام، لكن لديها أدوات متعددة لإضعاف تدفق المياه باتجاه باكستان، أبرزها:

1. بناء مزيد من السدود

الهند تمتلك مشاريع مثل “كريشنجانغا” و”راتلي” على أنهار مخصصة لباكستان. هذه السدود تؤخر تدفق المياه، وقد تؤثر في مواسم الري، وتؤدي إلى نقص المياه خلال الفصول الحرجة.

2. تحويل مجاري فرعية

عبر حفر قنوات داخلية واستخدام سدود صغيرة، يمكن للهند تقليل تدفق المياه بشكل زمني دون خرق مباشر للاتفاقية.

3. استخدام الخطاب القانوني والانسحاب الرمزي

تستطيع نيودلهي تعليق تنفيذ بنود معينة أو إعلان نيتها الانسحاب، ما يشكّل ضغطًا نفسيًا وسياسيًا على إسلام آباد.

رابعًا: الأثر المحتمل على باكستان

1. ضرب الزراعة والمياه الجوفية

80% من المياه السطحية الباكستانية مصدرها الأنهار الغربية. أي تأخير أو تقليص في المياه سيؤثر مباشرة على:

موسم القمح في البنجاب

محاصيل الأرز والقطن في السند

إمدادات الشرب في المناطق الريفية

2. تصاعد التوتر الاجتماعي والسياسي

نقص المياه سيتسبب في اضطرابات داخلية، خاصة في أقاليم السند والبنجاب وبلوشستان، ما يفتح جبهات غير متوقعة أمام الحكومة.

3. التوجه العسكري نحو الردع

قد تلجأ باكستان إلى اعتبار المياه “جزءًا من الأمن القومي”، مما يفتح المجال لردود ميدانية، سواء عبر تحركات عسكرية محدودة أو تصعيد في كشمير.

خامسًا: ردود الفعل الإقليمية والدولية

1. الصين

كونها حليفًا لباكستان ومؤسسة مشاريع ضخمة عبر CPEC (الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني)، فإن الصين تخشى أي زعزعة في الاستقرار المائي جنوب آسيا، خاصة في مناطق قرب كاشغر وحدودها مع الهند.

2. دول الخليج

كونها مستوردًا رئيسيًا للمنتجات الزراعية الباكستانية، فإن أي نقص في المحاصيل سيؤثر على أسعار الغذاء والتوريد إلى هذه الدول.

3. البنك الدولي

كراعٍ رسمي للاتفاقية، قد يتدخل البنك لمحاولة التهدئة، لكن موقفه قد يكون هشًا أمام أي تحرك أحادي من الهند.

سادسًا: السيناريوهات المتوقعة

السيناريو الأول: تصعيد تدريجي

الهند تزيد عدد سدودها وتُبطئ تدفق المياه تدريجيًا، مما يدفع باكستان إلى الرد دبلوماسيًا في البداية، ثم عسكريًا لاحقًا.

السيناريو الثاني: حرب محدودة

قطع المياه يؤدي إلى مواجهات حدودية محدودة، مع تدخل دولي سريع لتفادي الحرب الشاملة.

السيناريو الثالث: اتفاقية جديدة

يحدث تصعيد، لكن بوساطة دولية (ربما صينية–خليجية)، يتم تعديل الاتفاقية بما يرضي الطرفين مع آليات مراقبة جديدة.

سابعًا: قراءة استراتيجية

استخدام المياه كأداة ضغط قد يبدو أكثر “أمانًا” من الحرب التقليدية، لكنه يحمل مخاطر كبيرة:

كسر الثقة: الهند تخسر إحدى أوراقها الأخلاقية باعتبارها دولة تحترم التزاماتها.

ردود غير متوقعة: قطع المياه قد يُعد “عملاً عدوانيًا” يبرر استخدام القوة من باكستان.

فتح جبهات جديدة: قد يفتح بابًا لتدويل الأزمة وربطها بقضايا مثل كشمير، الأقليات، والنووي.

تحويل المياه من مورد طبيعي إلى أداة صراع جيوسياسي يعكس عمق الأزمة الهندية–الباكستانية، ويشير إلى دخول البلدين مرحلة جديدة من الصراع اللامتماثل. فإذا كانت الطائرات تُسقط في السماء، فإن معركة المياه تُخاض بصمت على الأرض – لكن نتائجها قد تكون أكثر كارثية من أي معركة جوية.

في هذه اللحظة الدقيقة، لا يملك الطرفان ترف المغامرة الكاملة، لكن حين يتحوّل النهر إلى حدود سياسية متحركة، فإن كل قطرة تصبح سلاحًا.

زر الذهاب إلى الأعلى