تقارير

الأزمة الليبية: خريطة الصراع والنفوذ تقود مستقبل البلاد نحو الفوضى

كتبت: رنيم شكري

تمر ليبيا بأحد أكثر الفترات تعقيدًا في تاريخها الحديث، حيث تشهد البلاد حالة من الفوضى والانقسام منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011.

ما بدأ كحركة احتجاجية ضمن موجة “الربيع العربي” تحول إلى حرب أهلية طاحنة، تعددت فيها الأطراف المحلية والدولية، وتشابكت فيها المصالح الإقليمية والدولية، مما جعل الأزمة الليبية واحدة من أكثر الصراعات تعقيدًا في المنطقة.

اليوم، لا تزال ليبيا تعاني من انقسام سياسي وعسكري عميق، مع وجود حكومتين متنافستين ومجموعات مسلحة متعددة تسيطر على مناطق مختلفة، وسط صراع على السلطة والموارد والنفوذ.

الخلفية التاريخية للصراع

بعد الإطاحة بالقذافي، دخلت ليبيا في مرحلة انتقالية صعبة، حيث فشلت المؤسسات الوليدة في فرض سيطرتها على البلاد، مما أدى إلى ظهور فصائل مسلحة متعددة تتنافس على النفوذ.

في البداية، تشكلت حكومة مؤقتة، لكن سرعان ما انقسمت البلاد بين تيارات سياسية وعسكرية متصارعة.

في عام 2014، تفاقم الانقسام مع تشكل حكومتين: واحدة في طرابلس مدعومة من “تحالف فجر ليبيا” والمجموعات الإسلامية، وأخرى في طبرق بقيادة خليفة حفتر والقوات الموالية له.

خليفة حفتر، العسكري السابق في عهد القذافي، قاد ما يُعرف بـ “الجيش الوطني الليبي” (LNA)، بدعم من دول مثل مصر والإمارات وروسيا، بينما حظيت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا في طرابلس بدعم تركيا وقطر وبعض الجماعات الإسلامية.

هذا الانقسام لم يكن سياسيًا فحسب، بل تحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة، خاصة بعد هجوم حفتر على طرابلس في عام 2019، مما أدى إلى تصعيد كبير في القتال وتدخل دولي أعمق.

الجماعات المسلحة وتوزيع النفوذ

تتنوع الجماعات المسلحة في ليبيا بين فصائل محلية ذات أهداف سياسية أو قبلية، وميليشيات متطرفة مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وأنصار الشريعة. بعض هذه الجماعات تحولت إلى لاعبين رئيسيين في الصراع، مثل:

  1. الجيش الوطني الليبي (LNA) بقيادة خليفة حفتر، والذي يسيطر على شرق ليبيا وأجزاء من الجنوب، ويحظى بدعم دولي وإقليمي.

  2. قوات حكومة الوفاق الوطني (GNA) التي كانت مدعومة من تركيا، واعتمدت على تحالفات مع ميليشيات مثل “فجر ليبيا” و”درع ليبيا”.

  3. المجموعات الإسلامية المسلحة، بعضها متطرف مثل أنصار الشريعة، والبعض الآخر ذو توجه سياسي إسلامي.

  4. الميليشيات القبلية التي تتحكم في مناطق معينة، خاصة في الجنوب، حيث تتنافس العائلات والقبائل على النفوذ والموارد.

هذه الجماعات لا تعمل بشكل مستقل، بل ترتبط بتحالفات متغيرة وفقًا للمصالح، مما يجعل المشهد الأمني متقلبًا للغاية.

التمويل والدعم الخارجي

تلعب العوامل الخارجية دورًا محوريًا في استمرار الأزمة الليبية، حيث تدعم دول إقليمية وعالمية أطرافًا مختلفة وفقًا لمصالحها:

  • مصر والإمارات وروسيا تدعم خليفة حفتر عسكريًا وسياسيًا، وترى فيه حليفًا ضد الإسلام السياسي والفوضى في ليبيا.

  • تركيا وقطر تدعمان حكومة الوفاق الوطني وتزودانها بالسلاح والمقاتلين السوريين، في إطار صراعها الجيوسياسي مع المحور الآخر.

  • الولايات المتحدة وأوروبا، وإن كانت مواقفها أقل وضوحًا، إلا أنها تدعم عملية سياسية بقيادة الأمم المتحدة، مع وجود مخاوف من تمدد النفوذ الروسي والتركي في ليبيا.

كما أن اقتصاد الحرب يلعب دورًا كبيرًا، حيث تتحكم بعض الجماعات المسلحة في موارد النفط والتهريب، مما يوفر لها تمويلًا ذاتيًا مستمرًا.

الأوضاع الإنسانية والاقتصادية

تعاني ليبيا من تدهور اقتصادي حاد بسبب الصراع المستمر، حيث انخفض إنتاج النفط، الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد، بشكل كبير. كما أن انعدام الأمن وانتشار الميليشيات أدى إلى تفشي الفساد والبطالة، مما زاد من معاناة المدنيين.

الأوضاع الإنسانية صعبة أيضًا، مع نزوح آلاف العائلات وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب والتهجير القسري. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت ليبيا نقطة عبور رئيسية للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، حيث تستغل شبكات التهريب الفوضى الأمنية لتحقيق أرباح طائلة.

المحاولات الدولية لحل الأزمة

بذلت الأمم المتحدة ومجتمع دولي جهودًا متعددة لتحقيق السلام في ليبيا، أبرزها اتفاق الصخيرات في 2015، الذي أسس لحكومة الوفاق الوطني، لكنه فشل في إنهاء الانقسام. في عام 2020، تم التوصل إلى وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، لكن التقدم نحو الانتخابات والاستقرار لا يزال بطيئًا.

التحدي الأكبر يتمثل في نزع سلاح الميليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة، وهو أمر صعب نظرًا لتمسك هذه الجماعات بسلطتها ونفوذها. كما أن التدخلات الخارجية تعيق أي حل مستدام، حيث تفضل بعض الدول استمرار الوضع الراهن لتحقيق مصالحها.

مستقبل ليبيا بين الحرب والسلام

يبقى مستقبل ليبيا غامضًا، فبينما هناك أمل بتحقيق المصالحة الوطنية عبر الحوار، إلا أن تعقيدات الصراع تجعل أي حل دائم بعيد المنال. الانتخابات المخطط لها قد تشكل خطوة مهمة، لكنها تحتاج إلى ضمانات لعدم عودة العنف. في النهاية، الحل لن يكون عسكريًا، بل سياسيًا يتطلب تنازلات من جميع الأطراف، وإيقاف التدخلات الخارجية، وبناء مؤسسات قادرة على إدارة الدولة.

ليبيا، الغنية بالنفط والموقع الاستراتيجي، يمكن أن تتحول إلى دولة مستقرة ومزدهرة، لكن ذلك يتطلب إرادة حقيقية من الليبيين والدول الداعمة لوضع حد للصراع، وإلا ستستمر البلاد في دوامة العنف والانهيار.

زر الذهاب إلى الأعلى