مقالات

رامي الشاعر يكتب: المكان الأفضل لعقد لقاء بوتين وترامب

ينبغي علينا بادئ ذي بدء ملاحظة أن روسيا لم تبادر بطلب الوساطة من أحد بخصوص تسوية الأزمة الأوكرانية في أي وقت من الأوقات.
وقد أعلنت روسيا، على لسان قيادتها السياسية، ومسؤوليها على كل المستويات، وبكل وضوح وشفافية، عن أهدافها من العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، كما أعلنت أيضا، مرارا وتكرارا، أنها لن تتوقف حتى تحقق هذه العملية كامل مهامها، وأعاود التذكير هنا بتلك الأهداف:
1- حماية الأمن القومي الروسي من تمدد “الناتو” شرقا من حدود ألمانيا الشرقية لحظة تفكك الاتحاد السوفيتي 1991 (حيث تبعد برلين عن موسكو 1600 كيلومتر) وحتى أوكرانيا على بعد 700 كيلومتر فقط من موسكو. لا سيما أن “الناتو” كان قد شرع بالفعل في تدشين البنية التحتية لوجوده على الأراضي الأوكرانية، وفي السنة التي سبقت بدء العملية العسكرية قام بنحو 10 تدريبات ومناورات مشتركة مع أوكرانيا.
2- نزع سلاح الدولة الأوكرانية التي سمحت لنفسها أن تكون رأس حربة لـ “الناتو” في خصر روسيا والحيلولة دون انضمامها إلى “الناتو” أو أي تكتل عسكري آخر يهدد الأمن القومي الروسي.
3- حماية السكان الروس في جنوب وشرق أوكرانيا بعد أن قامت أوكرانيا بعمليتين عسكريتين ضدهما تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”، لمجرد تعبير هؤلاء عن رفض الانقلاب (عام 2014) والمطالبة بحقوقهم الشرعية في ممارسة حياتهم وثقافتهم المنتمية إلى العالم الروسي بحكم الجغرافيا والتاريخ. لا سيما بعد إعلان النظام في كييف عن عدم رغبته الالتزام باتفاقيات مينسك الموقعة مع روسيا برعاية ألمانيا وفرنسا والأمم المتحدة.
4- اجتثاث النازية الجديدة التي انتشرت منذ 2004 بعد الثورة البرتقالية (بقيادة الرئيس الخاسر في الانتخابات آنذاك فيكتور يوشينكو)، بإعادة تأهيل رموزها المتمثلين في ستيبان بانديرا ورومان شوخيفيتش واعتبارهما أبطالا قوميين، في حين أنهما تعاونا مع النازي، وهو أمر مثبت تاريخيا.
وقد بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا باتباع خطوات قانونية محكمة لا غبار عليها، استنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة ومواد القانون الدولي والإنساني ذات الصلة، بعد الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وطلب هاتين الجمهوريتين رسميا من روسيا المساعدة في مواجهة اعتداء قوات الجيش الأوكراني وتشكيلات أوكرانية أخرى قومية نازية متطرفة (من بينها فوج آزوف الشهير) على سكان المناطق في دونيتسك ولوغانسك وزابوروجيه وخيرسون.
وبعد استفتاءات شرعية في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ومنطقتي زابوروجيه وخيرسون (تخطت جميعها عتبة الـ90%)، أعلن أغلبية مواطني هذه المناطق عن رغبتهم في العودة إلى روسيا، وهي أراض كانت تنتمي جميعها تاريخيا إلى روسيا، بينما تنتمي الأغلبية العظمى من سكانها إلى الثقافة الروسية ويتحدثون الروسية ويتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي منعتها السلطات الأوكرانية واعتدت على رجالها، ويتحدث سكان تلك المناطق جميعا اللغة الروسية.
ويأتي ذلك على خلفية منع الدستور الأوكراني للغة الروسية والثقافة الروسية ومنع إنشاء المدارس الروسية وإغلاق القنوات ووسائل الإعلام الروسية وملاحقة السياسيين والإعلاميين والشخصيات العامة التي تعبر عن رفضها لنهج حكومة الانقلاب.
إلا أن القضية الأساسية هنا ليست أوكرانيا، وليست الدولة الروسية في خصام مع أوكرانيا، وقطعا ليست في خصام مع الشعب الأوكراني. القضية الأساسية هي مخططات “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة لاستهداف روسيا وزعزعة استقرارها وانتهاك سيادتها واستخدام الزمرة الحاكمة في كييف لهذا الغرض، بالتزامن مع محاولات مماثلة مع دول أخرى في محيط روسيا من دول الاتحاد السوفيتي سابقا.
وقد استمر هذا المخطط 30 عاما، ووصل إلى ذروته بالتصريحات العلنية المستهترة لقادة وزعماء الدول والتكتلات الغربية المختلفة بأنهم يرغبون في “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في أرض المعركة”، وبالرفض المتكرر (بدءا من أبريل 2022) لأي مفاوضات سلام يمكن أن تشارك بها أوكرانيا، وبإمداد أوكرانيا بسيل متدفق من الأسلحة الهجومية انتهاء بالوقوف وراء أوكرانيا في اعتدائها واحتلالها للأراضي الروسية في مقاطعة كورسك منذ عام (في أغسطس 2024)، وانتهاء هذه المغامرة بالفشل الذريع، ما أسفر عن اهتراء الجبهة الأوكرانية بالكامل، وهزيمة “الناتو” في أوكرانيا وتقدم القوات الروسية اليوم حتى اقترابها في هذه اللحظات من مدينة كراسنوارميسك (بوكروفسك الأوكرانية) وهو ما يهدد فعليا بانهيار الجبهة الأوكرانية، وبالتالي انهيار جميع خطط “الناتو” في أوكرانيا.
لذلك، فإذا كان أي من الزعماء سواء كان بايدن أو ترامب أو أي من زملائهما الغربيين المتورطين في هذا المخطط يرغبون حقا في إنهاء الأزمة بينهم وبين روسيا، فمرحبا بهم في روسيا لمناقشة كيفية إنهاء تلك الأزمة. ولا أرى بهذا الصدد أي داع للبحث عن بلدان محايدة أو غير محايدة للقاء والاتفاق، كما أنني أعتقد أن الرئيس الأوكراني فاقد الشرعية ومنتهي الصلاحية زيلينسكي (منذ مايو 2024) لا مكان له في تلك المفاوضات المعنية أساسا بإعادة الاتفاق على هيكل الأمن الأوروبي استنادا إلى القواعد الجديدة المثبتة فعليا على الأرض، وعلى خلفية هزيمة “الناتو” في أوكرانيا.
لقد تسبب زيلينسكي في مقتل مئات الآلاف من أبناء الشعب الأوكراني الشقيق، وهو ما يجب أن يدركه ترامب، كما يجب أن يستوعب الرئيس الأمريكي أيضا أن روسيا لا يمكن أن تتراجع عن أهدافها من العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، كما لا ينبغي توقع أن تنسى روسيا كل المؤامرات والمخططات التي حيكت ضدها طوال العقود الثلاث الأخيرة، ولا يمكن تحت أي ظرف من الظروف الاستهانة بها كقوة نووية عظمى، لا سيما توهم إمكانية “هزيمتها استراتيجيا” وهو ما أوصل العالم إلى الدرك الأسفل والتوتر الذي يفوق توتر الستينيات أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، ويفوق التوتر الذي كان يسود أثناء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
كذلك لا يجب التعامل مع تجاوب روسيا مع الجهود الدبلوماسية التي يسعى إليها بعض الأصدقاء والأحرار حول العالم بأنه ضعف أو خضوع لأي ضغوط أو إملاءات أو حصار أو عقوبات. فروسيا تخضع لأكبر حصار وعقوبات عرفتها البشرية منذ عشرة أعوام على أقل تقدير، وقد بلغت حزمات العقوبات أرقاما قياسية لم يعد أحد يعرف لها عدا ولا حصرا، ناهيك عن السرقة العلنية لأكثر من 300 مليار دولار من أموال البنك المركزي الروسي. إلا أن كل هذا أثر على روسيا بالإيجاب لا بالسلب، وروسيا، الدولة النووية العظمى، قادرة على هزيمة “الناتو” في أوكرانيا ودحره حتى حدود بولندا. إلا أن تاريخ روسيا وأيديولوجيتها وسياساتها لا تعتمد على الهجوم والعدوان، وإنما على الدفاع عن المصالح القومية العليا التي انتهكها “الناتو” زهاء عقود ثلاثة، وبعد تحذيرات كثيرة بدأت بتلميحات وبلغت ذروتها الواضحة في خطاب بوتين بمؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، لم يكن أمام روسيا إلا الوقوف سدا منيعا أمام تغول “الناتو” وتمدده شرقا حتى بوابة الدولة الروسية غربا وجنوبا. وهو ما لم يعد من الممكن القبول به.
إن روسيا تراعي السلوك غير المنضبط للرئيس ترامب، ولا تلتفت إلى تصريحاته الشاذة، وتلتمس له العذر لشعوره بالهزيمة أمام الصين والهند وروسيا و”بريكس”، وعجزه الواضح والمؤكد من إيقاف العملية التاريخية الموضوعية لانتقال العالم من الأحادية القطبية والهيمنة الغربية إلى عالم التعددية القطبية، كذلك تتعاطف روسيا مع رغبة السيد ترامب الملحة والمريضة في آن للحصول على جائزة نوبل للسلام، إلا أن التلاعب والمماطلة والتسويف والخداع والمناورات ومحاولات الاستنزاف والإضعاف وزعزعة الاستقرار لن تجدي نفعا. لكن روسيا، في الوقت نفسه، مستعدة ومنفتحة على كل وأي حوار عقلاني رشيد واضح ومحدد يسفر عن إعادة تشكيل هيكل الأمن في أوروبا وصك وثيقة ضمانات أمنية متساوية للجميع، وليس على حساب أمن أي من الأطراف. وروسيا أيضا مستعدة للحوار والتفاوض مع الأطراف كافة بشأن إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح فيما يتعلق بالنظام العالمي الراهن الذي يمر بأزمة وتحديات وجودية لا بد من مواجهتها والاعتراف بالمسار التاريخي الطبيعي والموضوعي نحو العالم متعدد الأقطاب.
عودة إلى مكان اللقاء المرتقب للقاء الرئيسين بوتين وترامب، أعتقد أن المكان الأنسب في ظل الظروف الراهنة، والتطورات المتسارعة التي يمر بها العالم بأسره، سيكون في شبه جزيرة القرم، وتحديدا في يالطا حيث اجتمع الزعماء ستالين وتشرشل وروزفلت منذ 80 عاما (4-11 فبراير 1945) لتوقيع اتفاقية يالطا التي وضعت الهيكل الأمني لأوروبا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى