تقارير

التطهير العرقي والإبادة الجماعية: جرائم حرب لا تسقط بالتقادم..غزة نموذجًا

كتبت: رنيم شكري

الإبادة الجماعية والتطهير العرقي مصطلحان يثيران الرعب في الذاكرة الإنسانية، ليس فقط بسبب دلالتهما على العنف الممنهج، ولكن أيضًا لكونهما يعكسان أحد أخطر انتهاكات حقوق الإنسان عبر التاريخ.

تُعرّف الإبادة الجماعية وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بأنها أي فعل مُرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، سواء عبر القتل أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي جسيم، أو فرض ظروف معيشية تهدف إلى الإبادة الفعلية، أو منع الإنجاب داخل المجموعة المستهدفة. أما التطهير العرقي، فهو مفهوم أوسع يشمل عمليات طرد أو نقل قسري لجماعة معينة من أرضها، مصحوبًا غالبًا بعنف ممنهج لتغيير التركيبة الديموجرافية لمنطقة ما.

عند استعراض التاريخ البشري، تبرز أحداثٌ تحوّلت إلى جراحٍ لا تندمل، حيث تجاوز العنفُ السياسي أو العرقي حدود الصراع ليتحول إلى حملات إبادة منهجية.

من بين هذه الأحداث، تُذكر مذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، حيث قُتل ما يُقدّر بـ1.5 مليون أرمني على يد الدولة العثمانية في حملة وصفتها أكثر من 30 دولة بأنها إبادة جماعية. وفي رواندا، راح ضحية التطهير العرقي عام 1994 ما يقارب 800 ألف شخص من قبيلة التوتسي على يد الأغلبية الهوتو خلال 100 يوم فقط، في واحدة من أسرع عمليات الإبادة تنظيماً في التاريخ الحديث.

أما في كمبوديا، فتحوّل نظام الخمير الحمر بقيادة بول بوت إلى آلة قتل جماعي بين 1975 و1979، أزهقت روح ربع السكان (قرابة مليوني شخص) تحت شعار بناء “مجتمع زراعي مثالي”. هذه الأحداث تشترك في سمة أساسية: تحويل البشر إلى أرقام في ملفات الجلادين، حيث يُسحق الفرد لمجرد انتمائه إلى “هوية مستهدفة”.

مع اندلاع أحداث السابع من أكتوبر 2023، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة من التعقيد، حيث شهدت غزة تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق من قبل الجيش الإسرائيلي ردًا على عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة حماس.

لكن ما بدأ كصراع عسكري تحوّل بسرعة إلى سيناريو مثير للجدل دوليًا، حيث تتزايد الاتهامات لمنظمات حقوقية وقانونيين دوليين بارتكاب إسرائيل انتهاكات قد تصل إلى مستوى جرائم الحرب أو حتى ممارسات تمهّد لإبادة جماعية.

وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين في غزة 55 ألفًا، معظمهم من المدنيين، بينما تشير منظمات محلية إلى أرقام أعلى، مع تدمير ممنهج للبنية التحتية بما فيها المستشفيات والمدارس والمساجد.

هذا الواقع أعاد للأذهان مقولات مفكرين مثل نعوم تشومسكي الذي يرى أن “الاحتلال نفسه هو شكل من أشكال العنف الممنهج”، بينما يذهب آخرون إلى أن ما يحدث في غزة يتجاوز الصراع العسكري التقليدي إلى منطقة رمادية في القانون الدولي.

لكي يندرج العنف تحت بند الإبادة الجماعية قانونيًا، يجب إثبات “القصد الإجرائي”، أي النية المبيّتة لتدمير الجماعة المستهدفة كليًا أو جزئيًا. هنا تكمن إشكالية التحليل القانوني لما يحدث في غزة.

فمن جهة، تشير تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى خطاب عدائي يمجّد الترحيل القسري أو تجويع المدنيين كأداة ضغط، وهو ما قد يُفسّر كدليل على “القصد”.

منظمة “هيومن رايتس ووتش” ذكرت في تقرير حديث أن سياسة إسرائيل في غزة “تحمل بصمات الإبادة الجماعية”، مستندة إلى حصار الغذاء والماء والدواء، والهجمات على المناطق الآهلة، والخطاب السياسي المصاحب.

بالمقابل، ترفض إسرائيل هذه الاتهامات وتعتبرها “تشهيرًا” يستند إلى معايير انتقائية، مؤكدة أن عملياتها تستهدف حماس فقط، وأن الخسائر المدنية هي “ضربة جانبية” لا مفر منها في حرب ضد خصم يتستّر بالمدنيين.

بينما تختلف الآراء حول تصنيف الأحداث في غزة كإبادة جماعية، يجد مفهوم “التطهير العرقي” صدى أوسع في الأدبيات الحقوقية. فمنذ النكبة عام 1948، يشكّل الترحيل القسري للفلسطينيين هاجسًا جماعيًا يتجدد مع كل موجة عنف.

اليوم، تُطرح تساؤلات خطيرة حول ما إذا كانت العمليات العسكرية الحالية تهدف -ضمنيًا أو صراحةً- إلى تهجير لسكان غزة إلى سيناء أو الأردن، كما تُلمّح بعض التصريحات السياسية الإسرائيلية. الخطة الإسرائيلية المزعومة لـ”نزع سلاح غزة” وبناء مستوطنات جديدة حيث مخيمات اللاجئين الحالية، تعيد إنتاج سيناريو تاريخي من التطهير المكاني.

هذا ما حذّرت منه المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانسيسكا ألبانيز عندما قالت إن “الأفعال الإسرائيلية تشير إلى نية لخلق ظروف معيشية مستحيلة تدفع الفلسطينيين إلى الهروب أو الموت”.

بينما لا تختلف الآراء كثيرًا حول قضية شائكة كالهولوكوست والمحارق التي ارتكبها النازيون في يهود أوروبا والتي تم استخدامها فيما بعد كذريعة لكل ما حدث بعد ذلك منذ 1948.

وإذا حاول أحد تفنيد أو توجيه أبسط أشكال النقد لتلك السردية التاريخية فعادة ما يقابل بالهجوم، على الجانب الآخر ما يزال العالم الآن يناقش أحقية أهالي غزة في الحقوق الأساسية مما يشير إلى منظومة معايير معطوبة ومزدوجة.

المجتمع الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة، يظهر انقسامًا حادًا تجاه الأحداث في غزة. فبينما تصدرت جنوب إفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، تقف دول غربية كبرى -خاصة الولايات المتحدة- حائط صدّ أمام أي إجراءات جادة ضد حليفتها إسرائيل.

هذا الانقسام يعكس ازدواجية المعايير في التعامل مع القانون الدولي، حيث تُطبّق الاتهامات بالإبادة على خصوم الغرب (كما في حالة الصرب أو ميانمار)، بينما تُغمض العيون عن انتهاكات الحلفاء.

الصحفي الاستقصائي جون بيلجر وصف هذا التناقض بأنه “ديكتاتورية القوة المطلقة”، حيث يُعاد تعريف القانون حسب هوى الأقوياء.

في المقابل، تشهد الشوارع العربية والغربية حراكًا شعبيًا غير مسبوق تضامنًا مع غزة، ربما يشكّل بذرة لتحوّل في السياسات الدولية على المدى البعيد.

ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد فصل آخر في الصراع العربي-الإسرائيلي، بل اختبار حقيقي لمصداقية النظام الدولي وقدرته على حماية الضعفاء.

سواءٌ أُثبتت نية الإبادة الجماعية قانونيًا أم لا، فإن المشهد الإنساني الكارثي يفرض مسؤولية أخلاقية على كل الضمائر الحية. التاريخ لن يسأل فقط عن الجناة، بل أيضًا عن الصامتين. كما قال الفيلسوف ألبير كامو: “الخيار ليس بين الخير والشر، بل بين الخوف والضمير”.

غزة أصبحت رمزًا لهذا الخيار المصيري الذي يواجهه عالمنا: الاستمرار في تسويغ العنف تحت شعارات الأمن، أو إعادة اكتشاف إنسانيتنا المشتركة قبل فوات الأوان.

زر الذهاب إلى الأعلى